حياة صعبة.. وموت أصعب

حياة صعبة.. وموت أصعب

رحّلت الامة العربية الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، هذه المرة الى مثواه الاخير، حتى قبل الاتفاق على وسيلة نقل جثمانه، وبأسلوب غرائبي لم يشهد فعل الموت شبيهاً له.

ارباك وارتباك ومعاندة في الوقت الضائع، وجمل اعتراضية تجتاح التصريحات المتعلقة بمراسم التشييع والدفن على وزن «ترتيبات تشييعه، اطال الله عمره» او «بعد وفاته لا قدر الله» او «ترتيبات مرحلة ما بعد عرفات تمهيداً للاعلان عن وفاته». وما الى ذلك من عبارات رفع العتب المدموجة بالرغبة في الانتهاء من التعاطي مع الرجل، الذي رافق لغز ظهوره على ساحة القضية الفلسطينية، بعد نكسة يونيو (حزيران) 1967، صراع مع كافة الاطراف والحكومات، ليعاني فصل الختام مخاضاً عسيراً، وكأن حياة ابي عمار الصعبة لا تكفي لخلاصه، حتى يأتي موته اصعب.وصعوبة الحالة العرفاتية بمراحلها التي تأرجحت بين الألق والأفول، عرفها اللبناني، ربما اكثر من غيره، مع «جمهورية الفاكهاني» في غرب بيروت، وبعد اتفاق القاهرة عام 1970. هذه «الجمهورية» شكلت مسودة الدولة الفلسطينية المصغرة، ليقتلعها الاجتياح الاسرائيلي من الاراضي اللبنانية عام 1982 ويرحّل عرفات وجماعته من بيروت بعد ترحيل سابق من عمان.

وخلال عقد من الزمن احتضن لبنان مكرهاً، بعد زجه في مرحلة بطولة قسرية، مفهوم الدولة داخل الدولة. وعايش اللبنانيون بروفة الكيان الفلسطيني المصغر والمبني على ديمقراطية البنادق مع امتلاكه سلطة ربما فاقت في اوجها سلطة الحكم الذاتي في الضفة والقطاع. ألم يقل عرفات بعيد وصوله هناك «سأحكم هنا كما حكمت في لبنان»؟.

ففي لبنان ازدهر اقتصاد «جمهورية الفاكهاني» وتكاملت فعالية المؤسسات الامنية المتبعة عن الثورة واشهرها حمل الرقم « 17»، وانتشرت مستشفيات ومدارس ومطابع وصحف ومجلات ومنشورات وحصص تموينية، غرف منها لبنانيون الى جانب الفلسطينيين، وتحركت عجلة اقتصاد الحرب، ففاض خيرها على الجميع، وساهم في ارساء معادلة «اطعم الفم تستحي العين». وتفاعلت حالة النضال تحت جناح ابي عمار، الذي اطل من المجهول بطلاً مقاوماً واباً لجميع الفدائيين. وما ادراك ما الفدائيون!! سحر ما بعده سحر. اشباح رجال يقاربون الاسطورة، تطغى السرية على تحركاتهم، يتدربون تحت جنح الظلام في «فتح لاند» اي «اقليم العرقوب» في جنوب لبنان. يعبرون الحدود الى الارض المحتلة. يعبرون النهر الى الضفة من غور الاردن. يعودون ابطالاً او صور شهداء في عمر الورود معلقة على جدران العاصمة بيروت، يحتفل بسقوطهم طاهرين في عمليات داخل فلسطين الحلم.

وينهل ابو عمار مناخ الحرية اللبناني المتميز عن غيره في الدول العربية، يرفد ثورته بحركة فكرية وايديولوجية تشرعنها وتلمعها، وتنمي واقعها العسكري، يرعى مؤتمرات ومهرجانات وينتشي بأغاني الثورة ويحلق حتى يصل الى الامم المتحدة، حاملاً بندقية وغصن زيتون، وحاصداً اعترافاً دولياً بقضيته ووطنه الموعود.

وايار يخبر ايلول الليل عمره ما يطول

فدائيي وحاملين سلاح

والثورة الثورة بو عمار

غيرك مين بيحميها

عبد الناصر ضحى دم

واختارك تتكفيها

ويتوج الهيجان الشعبي ياسر عرفات رئيساً غير معلن على قوى سياسية وعسكرية اختزلت الحركة الوطنية اللبنانية، التي كان يديرها، يخوض معها وبواسطتها حرباً ضد الفريق اللبناني الآخر، الذي كان يقابله معلناً رفض وجوده جملة وتفصيلاً.

ولا تحول الصعوبات من دون سيطرة عرفات على جزء من الساحة اللبنانية، فصال وجال، وسع المعالم الجغرافية لرقعة جمهوريته التي تجاوزت منطقة الفاكهاني والمخيمات الى غرب العاصمة بيروت بأكملها. وامتدت الى معظم الجنوب اللبناني بعد عمليات حربية اسفرت عن فرز وتقسيم للخريطة اللبنانية.

لكن المشهد تغير، ليس بفعل المؤامرة، وإنما بفعل الانحراف عن محور القضية، ونتيجة خطأ تكتيكي واستراتيجي احتلت صور «شهداء الزواريب» مكان صور شهداء الفداء. ولم يمنع الانحراف «ابا عمار» من ترؤس اجتماعات الحركة الوطنية ورعاية تناقضات الفصائل الفلسطينية على اختلاف مشاريعها، فالرجل اللغز كان لاعباً ماهراً، يروض الجميع بحكمة وحنكة وسطوة، يضخ 50 بندقية وخمسة آلاف ليرة لبنانية (اي ما يوازي اليوم ثلاثة الاف دولار) لكل مجموعة ميليشيوية، تفرخها الثورة في ارض النضال اللبناني: مرابطون، وأنصار الثورة، وقوات صلاح الدين، وفتيان علي. حتى يحكى ان حركة «امل» هي صناعة فتحاوية، تلقت تدريبها الاول في البقاع على يد كتيبة من فتح وحصد منها انفجار غاشم اكثر من 40 شهيدا.

وبرع عرفات في تجهيز عدة السيطرة المؤلفة من وقود بشري حاضر لخوض حرب الشوارع ، وتولي مهمات ازاحة المعارضين، وتصفية الحسابات، وإحراز المكاسب الصغيرة. وفتح الابواب اللبنانية لثوار العالم: جيش احمر ياباني وآخر ارمني سري، والوية حمراء، وجماعة ماو، وبادر ماينهوف، وكارلوس ورفاقه... ونشوة ما بعدها نشوة زينت وجود عرفات الصعب المستحيل في لبنان. انفرد بالساحة والقرار، اختلف مع حليفه الاكبر كمال جنبلاط وحزن كثيراً. عزز امنه الشخصي بعد تلمسه اشارات اختراق اسرائيلية لبيته الداخلي. بدأ يشعر بالحلقة تضيق وتحاصره وتتحكم بحياته. لكنه دائماً تملص منها. ورغم تحوله الى عبء على الساحة اللبنانية. اكتسب صفة الاسطورة مرة ثانية، استعاد هالته، تحديداً مع اقتراب موعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 تحولت جمهوريته الى دهاليز تزدحم بالسلاح والغذاء والرجال. شاهده اطفال يغادر متخفياً ملجأ كان يلوذ به قبيل لحظات من انفجاره. نام على قارعة الطريق في سيارة مجهولة. ناول احد مرافقيه مسدسه وأمره بقتل نفسه بعد اكتشافه خيانته، طاردته طائرات اسرائيلية في احياء ضيقة ونجا منها